أ.د.عودة الجيوسي - المدير الإقليمي للإتحاد الدولي لحماية الطبيعة
لعل المتأمل لمعنى كلمة مكَّة ودلالاتها يُدرك أن كلمة "مكة" أصبحت تستعمل في اللغات الأخرى غير العربية لتدل على نقطة الجذب والقبلة التي يقصدها الملايين ليشهدوا منافع لهم في مجالات مختلفة من التعلم والصحة والسياحة والبيئة والتنمية.

يهدف هذا المقال إلى التطرق إلى تطوير مفهوم المدينة الخضراء أو البيئية ( Eco – city) في ظل التحديات الكونية من التغير المناخي والتصحر وأزمة الطاقة والإقتصاد. ولعل أولى وأفضل المدن التي يمكن أن تُجسد مفهوم المدينة الخضراء هي مكة المكرمة، خاصة وأن هناك مشاريع لتوسعة الحرم والمدينة المقدسة. وسيتطرق هذا المقال إلى محاور مختلفة تشمل: فكرة المنتدى الدولي للفكر الإنساني والتنمية المستدامة، وذلك لتجسيد فـكرة "ليشهدوا منافع لهم"، ثم فكرة المدينة الخضراء والعمارة الخضراء وفكرة الغذاء الصحي المستمد من الطب النبوي وعيش حالة الزهد وقصة المكان عبر الزمان.

1. المنتدى الدولي للفكر الإنساني والتنمية المستدامة:
تحظى مكة المكرمة بنعمة عظيمة هي أنَّ أفئدة الناس تهوي إليها، وهي قبلةً كونية لما يزيد عن سدس سكان الكرة الأرضية. ومن الممكن استثمار موسم العمرة والحج لعقد منتديات متخصصة في جدة أو مكة حول مستقبل التنمية المستدامة وتقديم حلول عملية لتحويل مكة إلى مدينة خضراء / بيئية ، وكذلك من الممكن دعوة علماء الفكر والمعرفة من العلوم المختلفة ( أفضل مائة عالم كل عام) لموسم الحج لتقديم رؤية وتطورات عملية حول قضايا الساعة بحيث يصبح هذا المنتدى للفكر والتنمية المستدامة حافزاً للعلماء والمفكرين في العالم الإسلامي في مختلف العلوم والمعارف للإسهام في عمارة الكون وبناء المعرفة والإبداع في مجال التنمية المستدامة ويمكن للرئاسة العامة للأرصاد والبيئة أن ترعى هذا المنتدى كل عام في جدة قبل أو بعد موسم الحج.إذا كان المجتمع الدولي قد طَوّر منتديات مختلفة عالمية مثل المنتدى الإقتصادي الدولي، فإنَّ المملكة العربية السعودية بما تمتلك من إمكانيات وقدرات بشرية مؤهلة قادرة على إنشاء المنتدى العالمي للتنمية المستدامة بحيث تسخر كل المعارف والتقنيات الحديثة لإطلاق مشروع دولي حول تحويل مدينة مكة إلى مدينة خضراء وقليلة الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون كنموذج لتناغم الإقتصاد مع الثقافة والبيئة خاصةً وأنَّ الإسلام يقَّدم مبادئ وأسس لحماية البيئة والتنمية المستدامة.



2. المنافع المتعددة:
إن التعبير القرآني " ليشهدوا منافع لهم" هو مصطلح عام يفيد جملة من المنافع المختلفة والتي قد تشمل على مبادرات إقتصادية إجتماعية للطبقات الفقيرة ولأصحاب الأعمال الصغيرة وللشباب مثل التجارة المنصفة. والمنافع كذلك تشمل التعلم والتعليم في أمور الحياة المختلفة باستخدام وسائل التقنية الحديثة والتعلم عن بُعد حول البحث العلمي والتقنيات الحديثة.
إن أهمية الحج تكمن في تمكين الإنسان من التأمل والتعلم والإستفادة من عبرة التاريخ وسيرة الرسول عليه السلام والصحابة في بناء مجتمع التراحم والتكافل الإجتماعي والعدالة الإجتماعية والزهد وحماية البيئة حيث أن مكة تعتبر أول منطقة محمية يُحرم قتل الطير وقطع الزرع فيها في وقت الإحرام وفي هذا دلالة عميقة لاهتمام الإنسان بالكائنات الحية حوله (وإن من شيء إلا يسبح بحمده). إن كل هذه المعاني أعلاه هي منافع يمكن تحقيقها من خلال تفعيل مشاريع الوقف البيئي والتنمية المستدامة لدعم المشاريع الصغيرة لصغار المنتجين وللزراعة الأصيلة وكذلك من خلال تطوير معارض وأفلام وثائقية متخصصة حول البيئة والتنمية والطاقة المتجددة والصناعات النظيفة في جدة أو مكة لتحقيق مفهوم تحقيق المنافع المختلفة والمتعددة.

3. مكة كمدينة خضراء: دلالات ومعاني
إن فكرة تطوير مكة المكرمة إلى مدينة خضراء/ بيئية يُمثل تجسيداً عملياً لتفعيل المبادئ الإسلامية في حماية الطبيعة والبيئة بحيث يعيش الإنسان حالة التصالح والتناغم مع الطبيعة والكون والإنسان.وهناك منظومة من الطرق والوسائل والأفكار التي يمكن تطبيقها في سبيل تطوير مكة المكرمة كمدينة خضراء / بيئية.من الأمثلة على هذه الأفكار:
• تطوير معايير للبناء الأخضر في مكة المكرمة بحيث يتم إستخدام المياه الرمادية وإعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة وتخضير الأماكن العامة.
• استخدام الطاقة الشمسية في إنارة الأماكن العامة وفي وسائل النقل المختلفة والتقنيات المختلفة في التبريد وتوليد الطاقة.
• استخدام الوقود النظيف ووسائل النقل النظيفة والعامة مثل السيارة الهجينة والقطارات التي تعمل بواسطة الكهرباء
• تطوير أنظمة لجمع وفرز ومعالجة وتصنيع المواد الصلبة والورق والبلاستيك والألمنيوم وبقايا الطعام بالتعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والشباب.

إن الغاية من هذا التحول إلى المدينة الخضراء يمثل نقلة نوعية لمن يزور مكة المكرمة لما لهُ من قيمة في تعليم ما يزيد عن 3 ملايين إنسان كل عام حول حماية البيئة من خلال البرامج التعملية ومن خلال التأمل وعيش حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم في كل أحوالهم وشؤونهم من طعام وشراب ولباس وسلوك والتي هي في حالة تجسيد لحالة "الحياة الطبيعية" وحالة الأحسان وعمارة الكون بكل دلالاتها وأبعادها.

إن الأبعاد المكانية للحرم يجب التفكير فيها كمكان مخصص للعبادة بحيث يتم تطوير المباني ومشاريع التنمية المختلفة خارج نطاق منطقة الحرم، بحيث يتم خدمة مشاريع التنمية عبر شبكة قطارات نظيفة. وتوفير مساحات خضراء وأماكن عامة للمشاة والراحة والتعليم والعبادة.